سورة الزمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {قُل} لهم: {إِني أُمرتُ أن أعبدَ اللهَ} حال كوني {مخلصاً له الدينَ} من كل ما ينافيه من الشرك والرياء، وما أمر به صلى الله عليه وسلم يُؤمر به أمته؛ بل هم المقصودون. ثم قال: {وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين} أي: وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص، والتقدير: أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين.
أو: تكون اللام زائدة، وهو أظهر، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنَ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] أي: من قومي، أو: من أهل زماني، أو: أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه، وهو الإسلام، وحاصله: أُمرت بإخلاص الدين، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة؛ لأنه داع إلى الإسلام، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، لا الملوك والمتجبرين.
{قل إِني أخافُ إِن عَصَيْتُ ربي} بترك الإخلاص، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك {عذابَ يومٍ عظيم} هو يوم القيامة. وُصف بالعظمة؛ لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال.
{قُلِ اللهَ أعبدُ} لا غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. وليس بتكرار؛ لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين، وبالسبق إليه، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر، وفعل ما أُمر به. وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة: أعْبُدْ ما نعبد، لنعبُد ما تعبد، فهو كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [الكافرون: 6] أي: لا أعبد إلا الله {مخلصاً له ديني} من كل ما يشوبه من العلل، فأمر صلى الله عليه وسلم أولاً ببيان كونه مأموراً بعبادة الله وإخلاص الدين له، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان، ثم بالإخبار بامتثالهِ لِمَا أمر به على أبلغ وجه؛ إظهاراً لتصلُّبه في الدين، وحسماً لمادة أطماعهم الفارغة، وتمهيداً لتهديدهم بقوله: {فاعبدوا ما شئتم} أن تعبدوه {من دونه} تعالى. وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى، كأنهم لَمَّا لَمْ ينتهوا عما نُهوا عنه أُمِرُوا به، كي يحيق بهم العذاب.
{قلْ إِن الخاسرين}؛ الكاملين في الخسران، الذي هو عبارة عن: إضاعة ما يهمه، وإتلاف ما لا بد منه، هم {الذين خسروا أنفُسَهم} بتعريضها للعطب، {وأهلِيِهِم} بتعريضهم للتفرُّق عنهم، فرقاً لا جمع بعده؛ إما في عذاب الأبد، إن ماتوا على الكفر معهم، أو: في الجنة، إن آمنوا، فلا يرونهم أبداً. وقيل: خسروا أهلهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة، أو: خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم، لو آمنوا. {ألا ذلك هو الخسرانُ المبينُ} الذي لا خسران أظهر منه.
وتصدير الجملة بحرف التنبيه، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر. وتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخسران، ووصفه بالمبين؛ من الدلالة على كمال هوله وفظاعته، وأنه لا خسران وراءه، ما لا يخفى.
{لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار} أي: لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض، كائنة من النار، {ومن تحتهم} أيضاً {ظُلَلٌ} أي: أطباق كثيرة، بعضها تحت بعض، هي ظلل لآخرين. {ذلك} العذاب الفظيع هو الذي {يُخوِّف اللهُ به عبادَه} ويُحذِّرهم إياه؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه. {يا عبادِ فاتقون} ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي. وهذه موعظة من الله بالغة، منطوية على غاية اللطف والرحمة، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه.
الإشارة: الإخلاص سر بين الله وبين عبده، لا يطلع عليه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيُفسده، وهو الغيبة عما سوى الله، فلا يرى في الدارين إلا الله، ولا يعتمد إلا عليه، ولا يخاف إلا منه، ولا يرجو إلا إياه. والإسلام هو: الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية، فالإسلام صورة، والاستسلام روحها، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح.
وقوله تعالى: {فاعبدوا ما شئتم} هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه، وهو الخسران المبين. ويقال: الخاسر: مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى مشاهدة حضرة العلي الكبير، وهي حضرة الذات، فمَن خسر هذا الخسران، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان. {ذلك يُخوِّف اللهُ بهِ عباده} قال القشيري: إن خفتَ اليوم كُفيت خوف ذلك اليوم، وإلا فبين يديك عقبة كُؤُود.


قلت: {أن يعبدوها}: بدل اشتمال من «الطاغوت»، والطاغوت: فعلوت، من الطغيان، بتقديم اللام على العين، وأصله: طغيوت، ثم طيغوت، ثم طاغوت.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذين اجتنبوا الطاغوتَ} أي: البالغ أقصى غاية الطغيان، وهو الشيطان {أن يعبدُوها} أي: اجتنبوا عبادة الطاغوت، الذي هو الشيطان، أو: كل ما عُبد من دون الله، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان؛ لأنه هو المزيّن لها، والحامل عليها. {وأنابوا إِلى الله} أي: وأقبلوا إليه، معرضين عما سواه، إقبالاً كليّاً، {لهم البُشرى} بالنعيم المقيم، على ألسنة الرسل والملائكة، عند حضور الموت، وحين يُحشرون، وبعد ذلك.
{فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القولَ} أي: ما نزل من الوحي {فيتبعون أحسَنَه}؛ أرجحه وأكثره ثواباً، أو: أبْينه، الذي هو ضد المتشابه. وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت، والإنابة إلى ربهم، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر؛ تشريفاً لهم بالإضافة، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين، يُميِّزون الحق من الباطل، ويُؤثرون الأفضل.
{أولئك} المنعوتون بتلك المحاسن الجميلة؛ هم {الذين هداهُمُ الله} لدينه، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو رتبهم، وبُعد منزلتهم في الفضل. {وأولئك هم أولوا الألبابِ} أي: هم أصحاب العقول الصافية، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى، المستحقون للهداية، لا غيرهم.
وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى، لقوله: {هداهم الله}، وقبول النفس لها؛ لقوله: {هم أولوا الألباب}.
الإشارة: مذهب الصوفية: الأخذ بالعزائم، والأرجح من كل شيء، عقداً، وقولاً، وعملاً، فأخذوا من العقائد مقام العيان، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها، ويجمع ذلك: حسن الخلق مع كل مخلوق، فآثروا العفو على القصاص، والصفح على العتاب، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها، ومن الأذكار: أرجحها وأجمعها، وهو الاسم المفرد، الذي هو سلطان الأسماء، ومن الأعمال: أعظمها وأرجحها، وهو عمل القلوب، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، كعبادة الفكرة والنظرة، وفي الحديث: «تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، فأوقاتهم كلها ليلة القدر، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق، كالرضا، والتسليم، والحلم، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من محاسن الخِلل، الذي هو من عمل القلوب، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله: {فبشِّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}.
وقال الورتجبي بعد كلام: ويَتبع الكلام الأزلي الذي هو الخطاب بالفهم العجيب، والعلم الغريب، والإدراك الصافي، وانفراد الحق عن المخلوق، في المحبة، والشوق، والمعرفة، والتوحيد، والإخلاص، والعبودية، والربوبية، والحرية، فهذا أفضل وِرد بالبديهة، من حيث ظهور الأنباء العجيبة، والروح القدسية، والإلهامات الربانية.. انظر بقية كلامه. وقال القشيري: الاستماع يكون لكل شيء، والاتباع يكون للأحسن. ثم قال: مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله. اهـ. {أولئك الذين هداهم الله} إلى صريح معرفته العيانية. {وأولئك هم أولوا الألباب}، ولب الشيء: قلبه وخصاله، فقلوبهم خالصة لمولاهم، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها. وبالله التوفيق.


قلت: {مَن}: شرطية، دخل عليها همزة الإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة؛ ليتعلق الإنكار والنفي بمضمونها معاً، أي: أنت مالك أمر الناس، فمَنْ حَقَّ علية كلمة العذاب أفأنت تُنقذه، ثم كررت الهمزة في الجزاء؛ لتأكيد الإنكار، وتكريره، لَمّا طال الكلام، ثم وضع موضع الضمير {مَن في النار}؛ لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار، ويجوز أن يكون الجزاء محذوفاً، دلّ عليه: {أفأنت تُنقذ}... إلخ، أي: أفمن حقَّ عليه العذاب تنقذه أنت.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمن حقّ عليه كلمةُ العذاب}. وهم عبَدَة الطاغوت ومتبعو خطواتها، كما يلُوح إليه التعبير عنهم ب {مَن حق عليه كلمة العذاب}، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقوله تعالى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] أي: أفمن حقّت عليه كلمة الشقاء، تقدر أن تهديه وتُنقذه من الكفر، الذي هو سبب النار؟ أو: تقول: المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار بعد الدخول فيها، وهو لا يفيد. فالمراد: تسكينه صلى الله عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم.
الإشارة: مَن سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد، ومَن أسدل بينه وبينه الحجاب، لا يفيده إلا الوقوف بالباب، حتى يحنّ الكريمُ الوهاب، فإنّ العواقب في هذه الدر مبهمة، والأعمال بالخواتم. قال القشيري: والذين حقت عليهم كلمةُ العذاب، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم. اهـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان المراد بقوله: {أفأنت تُنقذ مَن في النار} هم الذين قيل في حقهم: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] استدرك عنهم أهل التقى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8